سورة آل عمران - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً}، وإنما خص الأولاد؛ لأنهم أقرب الأنساب إليه {وأولئك أَصْحَابُ النار}، إنما جعلهم من أصحابها؛ لأنهم من أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله. يدل عليه قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا}، قال يمان: يعني نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم مقاتل: يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم ورؤسائهم؛ كعب وأصحابه.
مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم. وضرب الله مثلا فقال: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}، قال ابن عباس: يعني السموم الحارة التي تقتل، ومنه خلق الله الجان. ابن كيسان: الصر ريح فيها صوت ونار.
سائر المفسرين: برد شديد.
{أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ}: زرع قوم {ظلموا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية ومنع حق الله عز وجل {فَأَهْلَكَتْهُ}. ومعنى الآية: مثل نفقات الكفار في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها وقت حاجتهم إليها بعد ما كانوا يرجون من عائدة نفعها كمثل زرع أصابه ريح بارد أو نار فأحرقته وأهلكته، فلن ينتفع أصحابه منه بشيء بعد ما كانوا يرجون من عائدها نفعه، قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية ومنع حق الله.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية عن أبي أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} قال: «هم الخوارج».
قال ابن عباس: كان رجل من المسلمين يواصل رجالا من اليهود؛ لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع؛ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم. مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادفون المنافقين ويخالطونهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ}: أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم. والبطانة: مصدر يوضع موضع الاسم فسمي بها الواحد والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث، قال الشاعر:
أُولئك خلصاني نعم وبطانتي *** وهم عيبتي من دون كلّ قريب
وإنّما ما قيل لخليل الرجل: بطانة؛ تشبيهاً لما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطّلاعه من أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه محل ما ولي جسده من ثيابه. ثم ذكر العلة في النهي عن مباطنتهم وعرفهم ماهم منطوون عليه من الغش والخيانة والبغي والغوائل فقال عز من قائل: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}، أي لا يقصّرون ولا يتركون عهدهم وطاقتهم فيما يورّثكم فوق الشر والفساد. يقال: ما ألوته خيراً أو شراً أي ما قصرت في فعل ذلك.
ومنه قول ابن مسعود في عثمان:
ولم تألُ عن خير لأُخرى باديهْ ***
وقال امرؤ القيس:
وما المرء مادامت حشاشة نفسه *** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
أي مقصّر في الطلب.
الخبال: الشر والفساد، قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] ونصب {خَبَالاً} على المفعول الثاني؛ لأن الإلوَ تتعدى إلى مفعولين. وإن شئت: المصدر، أي يخبلونكم خبالا. وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما يقال أوجعته ضرباً أي بالضرب {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي تمنوا ضرّكم وشركم وإثمكم وهلاككم. {قَدْ بَدَتِ البغضآء} قراءة العامة بالتاء؛ لتأنيث البغضاء. ومعنى الآية قد ظهرت امارة العداوة {أَفْوَاهِهِمْ} بالشتيمة والوقيعة في المسلمين. وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين. وقيل: هو مثل قوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30]. {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} من العداوة والخيانة {أَكْبَرُ} أعظم، قد بينا {لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} عن الأزهر بن راشد قال: كان أنس بن مالك يحدّث أصحابه، فإذا حدّثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يفسّره لهم، فحدثهم ذات يوم وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً».
فأتو الحسن فأخبروه بذلك، فقال: إنّما قوله: «لا تنقشو في خواتيكم عربياً»، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم محمداً. وأما قوله: «لا تستضيئوا بنور المشركين»، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أُموركم. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية.
وقال عياض الأشعري: وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فقال: إن عندنا كاتباً حافظاً نصرانياً من حاله كذا وكذا. فقال: مالك قاتلك الله؟ أما سمعت قول الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية، وقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ} [المائدة: 51]؟ هلا اتخذت حنيفيّاً قال: قلت: له دينه ولي ديني، ولي كتابته، لا أُكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أُدنيهم إذ قصاهم الله.
{هَآأَنْتُمْ أولاء}، تنبيه، و{أَنْتُمْ} كناية للمخاطبين من الذكور، {أولاء} اسم الجمع المشار إليه {تُحِبُّونَهُمْ} خبر عنهم. ومعنى الآية: أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} هم؛ لما بينكم من مخالفة الدين. هذا قول أكثر المفسرين. وقال المفضل: معنى {تُحِبُّونَهُمْ} تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} هم؛ لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. أبو العالية ومقاتل: هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم. قتادة: في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه.
{وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم، {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ} وكان بعضهم مع بعض {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل} يعني أطراف الأصابع واحدتها أنمَلة وأنمُلة، بضم الميم وفتحها {مِنَ الغيظ} والحنق؛ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم. وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن ثم عضّ، قال الشاعر:
إذا رأوني أطال الله غيظهم *** عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
وقال أبو طالب:
وقد صالحوا قوماً علينا أشحّة *** يعضّون غيضاً خلفنا بالأنامل
قال الله تعالى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}، إن قيل: كيف لا يموتون والله تعالى إذا قال لشيء كن فيكون؟
فالجواب: أن المراد ابقوا بغيضكم إلى الممات فإن مناكم عن الاسعاف محجوبة.
وقال محمد بن جرير: خرج هذا الكلام مخرج الأمر وهو دعاء أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يدعو عليهم بالهلاك كمداً ممّا بهم من الغيظ، قل يا محمد: اهلكوا بغيظكم: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بما في القلوب من خير وشر. روى عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ذكر أصحاب الأهواء فقال والذي نفسي بيده لئن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم. يعني صاحب هوىً، ولقد دخلوا في هذه الآية: {هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} الآية.
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ}، قرأ السلمي بالياء. الباقون بالتاء. يعني: إن تصبكم أيها المؤمنون {حَسَنَةٌ} بظفركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم وتتابع من الناس في الدخول في دينكم وخفض في معاشكم {تَسُؤْهُمْ}: تحزنهم {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} مساءة بإخفاق سريّة لكم، أو إصابة عدوّ فيكم أو اختلاف يكون منكم، أو حدث ونكبة {يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} وتخافوا ربّكم {لاَ يَضُرُّكُمْ} لا ينقصكم {كَيْدُهُمْ} شيئاً.
واختلفت القراءة فيه؛ فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: {لاَ يَضِرُّكُمْ} بكسر الضاد وراء خفيفة واختاره أبو حاتم، يقال: ضار يضير ضيراً مثل باع يبيع بيعاً، ودليله في القرآن: {لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: 5]. وهو جزم على جواب الجزاء.
وقرأ الضحاك بضم الضاد وجزم الراء خفيفة من (ضار يضور)، وذكر الفرّاء عن الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني. وقرأ الباقون: بضم (الضاد، والراء) مشددة، واختاره. وهو من (ضرّ يضرّ ضراً)، مثل (ردّ يرد ردّاً). وفي رائه وجهان:
أحدهما: أنه أراد الجزم وأصله لا يضررْكم فأُدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الراء الأُولى إلى الضاد وضُمت الراء الأخيره إتباعاً لأقرب الحركات إليها وهي الضاد؛ طلباً للمشاكلة كقولهم: مرّ يا هذا.
والوجه الثاني: أن يكون {لا} بمعنى ليس ويضمر الفاء فيه، تقديره: وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضركم. قاله الفرّاء وأنشد:
فإن كان لا يرضيك حتى تردني *** إلى قطري لا إخالك راضيا
{إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قرأ الأعمش والحسن: بالتاء. الباقون بالياء {مُحِيطٌ} عالم.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} الآية نظم الآية: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ولكن الله تعالى ينصركم عليهم كما نصركم ببدر وأنتم أذلة، وإن أنتم لم تصبروا على أمري ولم تتقوا نهيي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم يوم أحد حيث خالفتم أمر الرسول ولم تصبروا، فاذكروا ذلك اليومَ أو غداً بينكم {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}؛ فقال الحسن: هو يوم بدر. وقال مقاتل: هو الأحزاب. وقال سائر المفسرين: هو أُحد، وهو أثبت. يدل عليه قوله في عقبه: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} وهذا إنما كان يوم أُحد.
قال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال: «تأخر».
وذلك أن المشركين نزلوا بأُحد على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلاّ أصاب منّا، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من وفوقهم، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا.
فأُعجب رسول الله بهذا الرأي.
وقال بعض أصحابه: يا رسول الله أُخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا. فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة. فقال: «بما؟». فقال: بأني أشهد أن لا اله إلاّ الله، وأني لا أفر من الزحف، قال: «صدقت». فقتل يومئذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد رأيت في منامي بقراً فأَوَّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأَوَّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأَوَّلتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتل في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت.
فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس لنبي أن يلبس لامته أن يضعها حتى يقاتل».
وكان قد أقام المشركون بأُحد يوم الأربعاء والخميس، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم الجمعة بعدما صلّى بأصحابه الجمعة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أُحد ما كان، فذلك قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المؤمنين}، قرأ يحيى بن رئاب: {تبوي} المؤمنين خفيفة غير مهموزة من أبوى يبوي مثل أروى يروي. وقرأ الباقون: مهموزة مشددة يقال: بوأت تبوئة، وأبويتهم إبواء، إذا أوطنتهم، وتبوّأوا إذا تواطنوا، قال الله تعالى {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} [يونس: 87]، وقال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9].
والتشديد أفصح وأشهر، وتصديقه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]، وقال: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58].
وقرأ ابن مسعود: تبْوِئ للمؤمنين.
{مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}، أي مواطن وأماكن، قال الله تعالى {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55]، وقال: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9]. وقرأ أشهب: {مقاعد للقتال}. {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}: تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو أُسامة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وقيل: تسعمائة وتسعين رجلا، وقال الزجاج: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد وقت القتال ثلاثة آلاف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي بثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أُبي: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا} ناصرهما وحافظهما. وقرأ ابن مسعود: {والله وليهم} لأنّ الطائفتين جمع، كقوله: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]. {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وقال جابر بن عبد الله: ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} قال الشعبي: كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها. قال الواقدي: ذكرت قول الشعبي لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا: فلأي شيء سميت الصفراء؟ ولأي شيء سميت الجار؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع. قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه قط أحد غيرنا، وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة، إنما هو من بلاد غفارة.
التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون بها، وكان أول قتال قاتل فيه نبي الله صلى الله عليه وسلم. وقال الضحاك: بدر ماء بمنى على طريق مكة بين مكة والمدينة.
وقد مدحت القول في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه وجيزاً مجملاً؛ فإنّه باب يعظم نفعه وبالله التوفيق.
ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ستّ وعشرون غزوة، فأول غزوة غزاها غزوة ودّان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأُولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماءً لبني سليم، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد، ثم غزوة نجران: موضع بالحجاز فوق الفرع، ثم غزوة أُحد ثم غزوة الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نجد، ثم غزوة بدر الأخيرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة بني قردة، ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح: فتح مكة، ثم غزوة حنين لقي فيها، ثم غزوة الطائف حاصر فيها، ثم غزوة تبوك.
قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر الكبرى، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وأُحد في شوال سنة ثلاث، والخندق، وبني قريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق، وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر سنة ست، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين في شوال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك.
ذكر سراياه صلى الله عليه وسلم:
روي عن مقسم قال: كانت السرايا ستّاً وثلاثين، وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفايض وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز، ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيعَ لقوا فيها، وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها، وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلبِ ليث الكديدَ لقوا فيها الملوح، وغزوة علي بن أبي طالب إلى أبي عبد الله بن سعد من أهل فدك، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أُصيب بها هو وأصحابه جميعاً، وغزوة عكاشة بن محصن العمرة، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطن ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد لقوا فيها فقتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة محمد بن مسلمة أخي بني حارثة إلى القرطاء موضع من هوازن، وغزوة بشير بن سعد بن كعب بن مرة لفدك، وغزوة بشير بن سعد أيضاً إلى حيان بلد من أرض خيبر، وغزوة زيد بن حارثة الجموم من أرض بني سليم، وغزوة زيد أيضاً جذام من أرض حسمي لقوا فيها، وغزوة زيد أيضاً إلى طرف من ناحية نخل من طريق العراق، وغزوة زيد أيضاً وادي القرى لقي بني فزارة، وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين إحداهما التي أصاب فيها بشراً اليهودي، وغزوة عبد الله بن عتيك إلى حنين فأصاب بها أبا رافع بن أبي الحقيق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة وأصحابه فيها من أُحد وبدر إلى كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وهو بنخلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليغزوه فقتله، وغزوة الأُمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام فأُصيبوا بها، وغزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاح من أرض الشام فأُصيب بها هو وأصحابه جميعاً، وغزوة عيينة بن حذيفة بن بدر الفزاري العنبر من بني تميم، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث أرض بني مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك وحليفاً لهم من جهينة، قتله أُسامة بن زيد، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة فيه: «من لك؟ من لك لا اله إلاّ الله؟».
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بُلَي وعذرة وغزوة، أبي قتادة وأصحابه إلى بطن إضم قبل الفتح لقوا فيها، وغزوة الخيط إلى سيف البحر وعليهم أبو عبيدة الجراح وغزوة عبد الرحمن بن عوف.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}: جمع ذليل مثل عزيز وأعزة ولبيب وألبّة. وأراد هاهنا قلّة العدد، {فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} واختلفوا في هذه الآية: فقال قتادة: [...] يوم بدر أمدهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. يدل عليه قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ} [الأنفال: 9]، الآية، وقوله: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} إلى قوله: {مُسَوِّمِينَ}، فصبر المؤمنون يوم بدر، واتّقوا الله فأمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر. الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف رد للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلاّ يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً. وقال عمر بن أبي إسحاق: لما كان يوم أُحد انجلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي سعد بن مالك يرمي، وفتىً شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره فقال: ارمِ أبا إسحاق، ارمِ أبا اسحاق كرتين فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف.
وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} إلى قوله: {مُسَوِّمِينَ}، فلما بلغ الكرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدّهم أمدّهم الله أيضاً بخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف.
وقال آخرون: إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته فاتقوا محارمه أن يمدّهم في حروبهم كلها فلم يصبروا ولم يتقوا إلاّ في يوم الأحزاب فأمدهم الله تعالى حتى حاصروا قريظة. قال عبد الله بن أوفى: كنا محاصري بني قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم فلم يفتح علينا فرجعنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل عليه السلام فقال: «يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها؟». فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثمّ نادى فينا فقمنا كالّين متعبين لا نعبأ بالسير شيئاً حتى أتينا بني قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح الله لنا فتحاً يسيراً وانقلبنا بنعمة الله وفضل.
وقال قوم: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله عز وجل المدد إن صبروا، فلم يصبروا؛ فلم يُمدوا ولا بملك واحد ولو أُمدّوا لما هزموا. وهو قول عكرمة والضحاك. وكان هذا يوم أُحد حين انصرف أبو سفيان وأصحابه؛ وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يدخل المشركون المدينة، فبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اخرج على آثار القوم فانظر ما يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد أجبنوا الخيل وركبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأُناجزنهم».
قال علي رضي الله عنه: «فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون، فإذا هم قد أجبنوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني، فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم لما بي من الفرح وانصرفوا إلى مكة وانصرفنا إلى المدينة، فأنزل الله تعالى في ذلك {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ}» يعني أن انصرفوا إليكم ودخلوا المدينة. وفي قراءة أُبي {ألا يكفيكم أن يمدكم ربكم}، أي يعطيكم ويعينكم.
قال المفضل: كل ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمده يمده إمداداً، وكل ما كان على جهة الزيادة قيل: مدّه يمدّه مدّا، ومنه قوله: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} [لقمان: 27].
وقال بعضهم: المد في الشر، والإمداد في الخير. يدل عليه قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79].
وقال في الخير {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [الأنفال: 9] وقال: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف}. وقال: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6].
وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55]. وقال: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22]، وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}، [نوح: 12] {مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة} [الأنفال: 9] {مُنزَلِينَ}. قرأ أبو حيوة: بكسر الزاي، مخفّفاً، يعني منزلين النصر. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وعمر ابن ميمون وابن عامر مشددة مفتوحة الزاي على التكثير. وتصديقه قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} [الأنعام: 111].
وقوله: {مُسَوِّمِينَ}. وقرأ الآخرون: بفتح الزاي خفيفة. ودليله قوله: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وقوله: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]. وتفسير الإنزال: جعل الشيء من علو إلى سفل، ثم قال: {بَلَى} وهو تصديق لقول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِن تَصْبِرُواْ} لعدوّكم {وَتَتَّقُواْ} معصية ربكم.
{وَيَأْتُوكُمْ} من المشركين، {مِّن فَوْرِهِمْ هذا} [آل عمران: 125] قال عكرمة والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن زيد: من وجههم هذا، وهو رواية عطية عن ابن عباس. مجاهد والضّحاك وزاذان: من غضبهم هذا، وكانوا قد غضبوا يوم أُحد ليوم بدر ممّا لقوا، وأصل الفور: القصد إلى الشيء والأخذ فيه بحدّه، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فوراً وفوراناً إذا غلت {وَفَارَ التنور} [هود: 40]، قال الشاعر:
تفور علينا قدرهم فيديمها *** ويفثأُها عنا إذا حَمْيَها غلا
{بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب: بكسر الواو، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو عبيد، فمن كسر الواو أراد أنّهم سوّموا خيلهم، ومن فتح أراد به أنفسهم، والسّومة: العلامة التي يعلّم بها الفارس نفسه في الحرب، واختلفوا في هذه السّمة الموصوفة بها الملائكة في هذه الآية ما هي، فقال عمير بن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بدر: «تسوّموا، فإن الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأحمر في قلانسهم ومغافرهم» الضحاك وقتادة: بالعهْن في نواصيها وأذنها. مجاهد: كانت مجزوزة أذناب خيلهم وأعرافها ونواصيها معلّمة، الربيع: كانوا على خيل بلق، عليّ وابن عباس رضي الله عنهم: كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، هشام بن عروة الكلبي: عمائم صفر مرخاة على أكتافهم.
وقال عبد الله بن الزبير: إن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء وعمامة صفراء يوم بدر، فنزلت الملائكة يوم بدر مسوّمين بعمائم صفر.
وروى الزبير بن المنذر عن جدّه أبي أسيد وكان بدريّاً قال: لو كان بصري فرّج عنه، ثم ذهبتم معي إلى بدر لأريتكم الشعب التي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم، وقال عكرمة: كانت عليهم سيماء القتال، السديّ: سيماء المؤمنين.
{وَمَا جَعَلَهُ الله} يعني: هذا الوعد والمدد {إِلاَّ بشرى} لتستبشروا به. {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ} ولتسكن قلوبكم إليه، فلا تجزع من كثرة عدوّكم وقلّة عددكم.
{وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} لأن العزّ والحكم له وهو: {العزيز الحكيم} نظيرها في الأنفال، ثم قال: واستعينوا بالله وتوكلوا عليه {لِيَقْطَعَ طَرَفاً}. نظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً، أي: ليهلك طائفة {مِّنَ الذين كفروا} نظيره قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} [الأنعام: 45] أي: أهلك، وفي الأنفال: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} [الآية: 7]، وفي الحجر: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الآية: 66]، السديّ: معناه ليهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقتل من سادتهم وقادتهم يوم بدر سبعين، وأُسر منهم سبعين.
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} بالخيبة {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} لم ينالوا شيئاً ممّا كانوا يرجون من الظفر بكم. وقال الكلبي: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}: أو يهزمهم بأن يصرعهم لوجوههم. المؤرّخ: يخزيهم. النضر بن شميل: يغيظهم، المبرّد: يظفر عليهم، السديّ: يلعنهم، أبو عبيدة: يهلكهم، قالوا: وأهل النظر يرون التاء منقلبة عن الدال، لأن الأصل فيه يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، ويقول العرب للعدوّ: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم *** هم الأعداء والأكبادسود
كأنّ الأكباد لمّا أحترقت بشدّة العداوة أسودّت، والتاء والدال يتعاقبان، كما يقال: هرت الثوب وهرده، إذا خرقه، يدل على صحة هذا التأويل قراءة لاحق بن حميد: أو يكبدهم، بالدّال.
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية، فقال عبد الله بن مسعود:


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}
{ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} قال زيد بن أسلم: مرَّ شاس ابن قيس اليهودي وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الطعن في المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم والفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شاباً من اليهود كان معه قال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قيله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس، وحيان بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعاً وقالا: قد جعلنا السلاح موعدكم الظاهرة وهي حرة، وخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها على بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: «يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم إليه كفاراً الله الله» فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيدهم من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين. فأنزل الله في شأن شاس بن قيس.
{ياأيها الذين آمنوا} يعني الأوس والخزرج {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني شاساً وأصحابه {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}.
قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله علينا فأومى إلينا بيده فكففنا وأصلح الله ما بيننا فما كان من شخص أحبُّ إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت قط يوماً أقبح أولا وأحسن آخراً من ذلك اليوم، ثم قال على وجه التعجب {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} يعني ولِمَ تكفرون {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} من القرآن {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} محمد صلى الله عليه وسلم قال قتادة: في هذه الآية علمان بيّنان: نبي الله وكتاب الله، فأمّا نبي الله فقد مضى وأمّا كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.
{وَمَن يَعْتَصِم بالله} أي يمتنع بالله ويتمسك بدينه وطاعته {فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق واضح.
وقال ابن جريج: {ومن يعتصم بالله} أي يؤمن بالله، وأصل العصم والعصمة المنع، فكل مانع شيئاً فهو عاصم.
قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم *** إذا ما أعظم الحدثان ناباً
والممتنع معتصم. فقال: اعتصمت الشيء واعتصمت به وهو الأفصح.
قال الشاعر:
يظل من خوفه الملاح معتصماً *** بالخيزرانة بعد الأين والنجد
وقال آخر:
إذا أنت جازيت الأخاء بمثله *** وآسيتني ثم اعتصمت حبالياً
وقال حميد بن ثور يصف رجلا حمل امرأة بذنبه:
وما كاد لما أن علته يقلها *** بنهضته حتى أكلان واعتصما
{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ}.
قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية وصال حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم، فافتخر بعد ذلك منهم رجلان: ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة، ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمة له ورضى الله بحكمه في بني قريظة، وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الكلام بينهما فغضبا، فقال الخزرجي: أما والله لو تأخر الإسلام قليلا وقدوم النبي صلى الله عليه وسلم لقتلنا ساداتكم، واستعبدنا آبائكم ونكحنا نسائكم بغير مهر.
فقال الأوسي: قد كان الإسلام متأخراً زماناً طويلا فهلاّ فعلتم ذلك، فقد ضربناكم حتى أدخلناكم الديار، وأنشدا الأشعار وتفاخرا وتأذيا، فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي ومعهم سلاح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب حماراً وأتاهم فأنزل الله تعالى هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا.
وقال عطاء: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وقال: «يا معشر المسلمين مالي أُوذى في أهلي» يعني الطعن في قصة الإفك، وقال: «ما علمت على أهلي إلاّ خيراً، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي».
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله وأكفيك أمره وأنصرك عليه، إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان رجلا صالحاً ولكنه احتملته الحمية فقال لسعد ابن معاذ: كذبت لعمر الله. فقال سعد: والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ودعوا بالسلاح، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}.
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يُشكر فلا يُكفر».
وقال أبو عثمان: أن لا يعصى طرفة عين.
مجاهد: أن يجاهدوا حق جهاده.
ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبناءكم.
الحسن: هو أن تعطيه فيما تعبده.
قال الزجاج: أي اتقوا فيما يحق عليكم أن تتقوه واسمعوا وأطيعوا.
قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله ومن يقوى على هذا وشق عليهم فأنزل الله تعالى {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] فنسخت هذه الآية.
قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ إلاّ هذا.
{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}.
قال طاوس: معناه اتقوا الله حق تقاته وإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي مؤمنون.
وقيل: مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عزّ وجلّ.
وقال المفضل: المحسنون الظن بالله.
وروى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرّت على أهل الأرض معيشتهم فكيف بمن هو طعامه».
وعن أنس بن مالك قال: لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن من لسانه {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} أصل الحبل السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة، ولذلك سمّي الأمان حبلا، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف.
وقال الأعشى بن ثعلبة:
وإذا تجوزها حبال قبيلة *** أخذت من الأخرى إليك حبالها
واختلفوا في الحبل المعني بهذه الآية:
فقال ابن عباس: تمسكوا بدين الله.
وروى الشعبي عن ابن مسعود أنه قال في قوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} قال الجماعة.
وقال ابن مسعود: يا أيها الذين آمنوا عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير ممّا تحبون في الفرقة.
وقال مجاهد وعطاء: بالعهد.
قتادة والسدي والضحاك: هو القرآن، يدل عليه ما روى عن الحرث أنه قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث، فأتيت علياً كرم الله وجهه فقلت: ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث؟ فقال: وقد فعلوا؟ فقلت: نعم، فقال: أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة» قال: قلت: فما الخروج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلاّ أن قالوا {سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن: 1] من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور».
وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة».
وروى سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن أرقم فقلنا له: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصليت خلفه؟ قال: نعم، وإنه خطبنا فقال: «إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة».
وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله جل جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض».
فقال مقاتل بن حيان: {بحبل الله} أي بأمره وطاعته.
أبو العالية: بإخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ.
ابن زيد: بالإسلام.
{وَلاَ تَفَرَّقُواْ} كما تفرقت اليهود والنصارى.
وروى الأوزاعي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن امتي ستفترق على اثنى وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة»فقيل يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ قال فقبض يده، وقال: «الجماعة» ثم قرأ {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
وروى أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد: نحن حبل الله الذي قال الله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
أخبرني محمد بن كعب القرظي عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله رضى لكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً: رضى لكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله أمركم، وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال».
وعن عبد الله بن بارق الحنفي عن سماك- يعني الحنفي- قال: قلت لابن عباس: قوم يظلموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ألا تمنعهم؟ فقال: لا يا حنفي أعطهم صدقتهم وإن أتاك أهدل الشفتين منتفش المنخرين يعني زنجياً فأعطه، فنعم القلوص قلوص يأمن بها المرؤس عروسه ووطنه- يعني امرأته- وقربة اللبن يا حنفي الجماعة الجماعة، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت قول الله: {جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً}. قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار قال: كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب سمير وحاطب، وذلك أن سميراً هو سمير بن زيد ابن مالك أحد بني عمرو بن عوف، قيل: حليفاً لملك بن عجلان، والآخر من الخزرج يقال له: حاطب بن أبحر من مزينة، فوقعت بين القبيلتين الحرب، فزعم العلماء بأيام العرب أن تلك الحرب والعداوة تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم، واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأها الله بالإسلام وألّف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم وكان سبب الفتهم وارتفاع وحشتهم أن سويد بن صامت أخا بني عمرو بن عوف قدم مكة حاجاً أو معتمراً وكان سويد إنما تسميه قومه الكامل لجلادته وشعره ونسبه وشرفه وحكمته، فقدم سويد مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعث وأمر بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فتصدّى له حين سمع به، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام.
فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟»قال: مجلة لقمان، يعني حكمته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعرضها عليَّ»فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل، هذا قرآن أنزله الله عليَّ نوراً وهدى» فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعده عنه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وكان قومه يقولون: قُتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم فقال: «هل لكم إلى خير ممّا جئتم له؟» قالوا: وما ذلك؟ قال: «أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا بالله شيئاً وأنزل عليَّ الكتاب» ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم هذا والله خير ممّا جئتم به، فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت أياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين بني الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، وهم ستة نفر أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن ملك، وقطبة بن عارف، وعقبة ابن عامر، وجابر بن عبد الله.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنتم؟».
قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي اليهود؟» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟».
قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، قال: وكان ممّا صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيّنا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم لك وستقدم عليهم فتدعوهم إلى حربهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا. فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الاسلام حتى فشاهم فيهم فلم تبق لهم دار من دور الأنصار إلاّ وفيها ذكر من رسول الله حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلاً وهم أسعد بن زرارة، وعوف ومعوّذ ابنا عفراء ورافع بن مالك بن العجلاني الخزرجي وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو فهؤلاء خزرجيون، وأبو الهيثم بن التيهان واسمه ملك وعويتم بن ساعدة من الأوس، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يزنوا إلى آخر الآية ثم قال: «إن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السخي الجهول أحبَّ إلى الله من العالم البخيل».
عبد السلام بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السماح شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار».
{والكاظمين الغيظ} أي الجامعين الغيظ عند امتلاء أنفسهم منه، والكافين غضبهم عن إمضائه يردّون غيظهم وحزنهم إلى أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون، وأصل الكظم: حبس الشيء عن امتلائه، يقال: كظمت القربة إذا ملأتها، وما يقال لمجاري الماء: كظائم، لامتلائها بالماء وأخذ بها كظامة، ومنه قيل: أخذت بكظمه، يعني بمجاري نفسه، ومنه كظم الإبل وهو حبسها جررها في أجوافها ولا تجتر، وإنما يفعل ذلك من الفزع والجهل.
قال أعشى باهلة يصف رجلاً نحّاراً للإبل وهي تفزع منه:
قد تكظم البزل منه حين تبصره *** حتى تقطع في أجوافها الجرر
ومنه قيل: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئاً غضباً وغماً وحزناً. قال الله تعالى: {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] وقال: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] وقال: {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] وقال: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ} [غافر: 18].
وقال عبد المطلب بن هاشم:
فحضضت قومي فاحتبست قتالهم *** والقوم من خوف المنايا كُظمُ
وفي الحديث: «ما من جرعة أحمد عقباناً من جرعة غيظ مكظومة».
وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كظم الغيظ وهو يقدر على إنفاذه دعاه إلله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيّره من أي الحور يشاء».
أنشدنا أبو القاسم محمد بن حبيب قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال: أنشدنا ابن أبي الزنجي ببغداد قال: أنشدنا العرجي:
وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً *** للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفاً تصبر ساعة *** يرضى بها عنك الإله وترفع
أي يرفع قدرك.
{والعافين عَنِ الناس}.
قال الرباحي والكلبي: عن المملوكين، وقال زيد بن أسلم ومقاتل: عمّن ظلمهم وأساء إليهم، وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك: «إن هؤلاء في أمتي قليل إلاّ من عصم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت».
وعن أبي هريرة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، ثم ردَّ أبو بكر رضي الله عنه عنه بعض الذي قال، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني وأنت تبتسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت، فقال: «إنك حين كنت ساكتاً كان معك ملك يرد عنك فلما تكلمت وقع الشيطان فلم أكن لأقعد في مقعد يقعده الشيطان، ثمّ قال: يا أبا بكر ثلاث كلّهن حق: أنه ليس عبد يظلم بمظلمة فيعفوا عنها إلاّ أعز الله نصره، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد به كثرة إلاّ زاده الله قلة وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة إلاّ زاده الله بها كثرة».
وقال عروة بن الزبير:
لن يبلغ المجد أقوام وإن كرموا *** حتى يذلوا وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة *** لاصفح ذل ولكن صفح أحلام
{والله يُحِبُّ المحسنين}.
قال مقاتل: يعني إن هذه الأشياء إحسان ومن فعل ذلك فهو محسن والله يحب المحسنين.
قال الحسن: الإحسان أن يعمّ ولا يخص كالريح والشمس والمطر.
سفيان الثوري: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، فإن الإحسان إلى المحسن مزاجرة كلمة السوق خُذ وهات.
السقطي: الإحسان أن يحسن وقت الإمكان، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان.
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو العباس عبد الله بن محمد الجماني:
ليس في كل ساعة و أوان *** تتهيأ صنائع الإحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها *** حذراً من تعذر الإمكان
ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت قصوراً مشرفة على الجنة فقلت يا جبرئيل لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين».
{والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} الآية.
قال ابن عباس: قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبهم مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك وأذنك، افعل كذا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأ عليهم هذه الآيات».
وقال عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمراً فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فهل لك فيه؟ قالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: «آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله، فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها فدخلت المرأة بيتاً فتبعها فاتقته بيدها، فقبّل يدها ثم ندم وانصرف، فقالت له: والله ما حفظت غيبة أخيك ولا نلت حاجتك، فخرج الأنصاري ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله.
فقالت: لا أكثر الله في الاخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، وطلبه الثقفي حتى وجده، فأتى به أبا بكر رضي الله عنه رجاء أن يجدا راحة عنده فخرجا، وقال الأنصاري: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر له القصة، فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم، ثم لقى عمر رضي الله عنه فقال: مثل ذلك، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله تعالى {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً}» هي صفة لاسم متروك تقديره: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} يعني قبيحة خارجة عمّا أذن الله فيه، وأصل الفحش القبيح والخروج عن الحد، ولذلك قيل للمفرط في الطول أنه فاحش الطول، والكلام القبيح غير القصد فالكلام فاحش والمتكلم به مفحش.
قال السدي: يعني بالفاحشة هاهنا الزّنا، يدل عليه ما روى حماد بن ثابت عن جابر {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} قال: زنى القوم وربّ الكعبة، أو ظلموا أنفسهم بالمعصية.
وقال مقاتل والكلبي: وهو ما دون الزنا من قُبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل.
الأصم: فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر، وقيل: فعلوا فاحشة فعلا وظلموا أنفسهم قولا.
{ذَكَرُواْ الله} قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله عزّ وجلّ، مقاتل والواقدي: تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، مقاتل بن حيان: ذكروا الله باللسان عند الذنوب فاستغفروا لذنوبهم. {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} أي وهل يغفر الذنوب إلاّ الله وما يغفر الذنوب إلاّ الله؛ فلذلك رفع. {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} واختلفوا في معنى الإصرار:
فقال أكثر المفسرين: معناه لم يقيموا ولم يدوموا ولم يثبتوا عليه، ولكنهم تابوا وأقرّوا واستغفروا.
قتادة: إيّاكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قدماً قدماً في معاصي الله، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك.
وقال الحسن: اتيان العبد ذنباً عمداً إصراراً، السدي: الإصرار السكوت وترك الاستغفار، وفي الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة».
وروى عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار» وأصل الإصرار الثبات على الشيء.
قال الحُطيئة: يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا *** غلالتها بالمحصدات أصرّت
أي ثبتت على عدوّها، نظم الآية: ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون، {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله}.
قال ابن عباس والحسن ومقاتل وابن يسار: {وهم يعلمون} أنها معصية.
الضحاك: {وهم يعلمون} أن الله يملك مغفرة ذنوبهم. السدي: {وهم يعلمون} أنهم قد أذنبوا. وقيل: {وهم يعلمون} أن الإصرار ضار، فإن ترك الإصرار خير من التمادي، كما قيل:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه *** إن الجحود الذنب ذنبان
وقال الحسين بن الفضل: {وهم يعلمون} أن لهم ربّاً يغفر الذنوب، وإنما اقتبس هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أذنب ذنباً وعلم أن له ربّاً يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر».
وقال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عزّ وجلّ: من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أُبالي».
وقال عبيد بن عمير: في بعض الكتب المنزلة: يابن آدم إنك ما دعوتني وما رجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي. وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرَّ رجل ممّن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر إليها فحدث نفسه بشيء ثم قال: أنت أنت وأنا أنا، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب ثم خرَّ لله ساجداً، فقيل له ارفع رأسك فأنا العواد بالمغفرة وأنت العواد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له».
وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم وإن التوبة تمحق الحوبة.
{أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي} إلى {العاملين} ثواب المطيعين.
يقال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يا موسى ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، يا موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي.
وقال شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.
وقال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية إلى آخرها.
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}، قال ابن زيد: أمثال.
المفضّل: أُمم، والسُنّة الأمّة.
قال الشاعر:
ما عاين الناس من فضل كفضلكم *** ولا رأوا مثلكم في سالف السنن
وقال بعضهم: معناه أهل السنن، وقال عطاء: شرائع، الكلبي: قد مضت لكل أمة سنّة ومنهاج إذا ابتغوها رضى الله عنهم، مجاهد: قد خلت من قبلكم سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم، والسنّة في اللغة: المثال المتبع والإمام المؤتم به، فقال: سنّ فلان سنّة حسنة أو سنّة سيئة إذا عمل عملا يقتدى به من خير أو شر.
قال لبيد:
من معشر سنّت لهم أباؤهم *** ولكل قوم سنّة وإمامها
قال سليمان بن قبة:
وإن الأُلى بالطف من آل هاشم *** تأسوا فسنوا للكرام التآسّيا
ومعنى الآية: قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية المكذبة الكافرة سنن بإمهالي واستدراجي إياهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلي على الذي أجلته لأدلة أنبيائي وإهلاكهم.
{فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} آخر أمرهم {المكذبين} منهم، وهذا في يوم أُحد. يقول: فإذا أمهلهم واستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وهلاك أعدائه، هكذا قال ابن إسحاق هذا الذي ذكرت.
{هذا} القرآن {بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} عامة {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} من الجهالة {لِّلْمُتَّقِينَ} خاصّة.


{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} الآية، هذا تعزية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أُحد، وحثّ منه إياهم على قتال عدوهم، ونهي عن العجز والفشل فقال: {وَلاَ تَهِنُوا} أي ولا تضعفوا ولا تخيبوا يا أصحاب محمد على جهاد أعدائكم بما قاتلوكم يوم أُحد من القتل والقرح {وَلاَ تَحْزَنُوا} على ظهور أعدائكم وعلى ما أصابكم من المصيبة والهزيمة، وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة، ومن الأنصار سبعون رجلا.
{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي لكم تكون العاقبة والنصر والظفر.
{إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يعني إذ كنتم، ولأنكم مؤمنون.
قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعب فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوا عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تعَلُ علينا اللهم لا قوة لنا إلاّ بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل، فرموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}.
وقال الكلبي: نزلت هذه الآية بعد يوم أُحد، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يخرج إلاّ من شهد معنا بالأمس» واشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ودليله قوله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ} [النساء: 104] الآية.
وقيل: {ولا تهنوا} لما نالكم من الهزيمة {ولا تحزنوا} على ما فاتكم من الغنيمة {إن كنتم مؤمنين} بقضاء الله ووعده.
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم} الآية.
قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كئيباً حزيناً جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها وأبيها مقتولين وهي تلدم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهكذا يفعل برسولك؟» فأنزل الله تعالى {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} جرح يوم أُحد {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} يوم بدر.
وقرأ محمد بن السميقع: قَرَح بفتح القاف والراء على المصدر.
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: بضم القاف حيث كان، وهي قراءة ابن مسعود.
وقرأ الباقون: بفتح القاف، وهي قراءة عائشة واختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، قالا: لأنهما لغة تهامة والحجاز، لغتان مثل الجُهد والوَجد والوُجد.
وقال بعضهم: القَرح بالفتح الجراحات واحدتها قرحة، والقُرح بالضم وجع الجراحة.
{وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} فيوماً عليهم ويوماً لهم وذلك أنّ الله عزّ وجلّ أدال المسلمين من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأدال المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا منهم خمسة وسبعين.
قال أنس بن مالك:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن، ونظير هذه الآية قوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} [آل عمران: 165] يوم أُحد قد أصبتم مثليها يوم بدر، يعني المثلي والأسرى.
عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما كان يوم أُحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس لهم أن يعلونا» قال: فمكث أبو سفيان ساعة ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة اين ابن الخطاب؟ فقال عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله وهذا أبو بكر وها أنا عمر. فقال أبو سفيان: يوماً بيوم وأن الأيام دول والحرب سجال.
فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال: إنكم لتزعمون ذلك فقد خبنا إذاً وخسرناهم.
قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون قتلاكم مثلى ولم يكن ذلك على رأي سراتنا ثم ركبته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه.
قال الثعلبي: أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو الحسن الكارزي قال: أنشدنا محمد بن القاسم الجمحي:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر
يهينون من حقروا فقره *** وإن كان فيهم تقي أو تبر
فيوماً علينا ويوماً لنا *** ويوم نساء ويوماً نسر
{وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ} يعني وإنما كانت هذه المداولة {وَلِيَعْلَمَ الله} ليرى الله الذين كفروا منكم ممّن نافقوا فيهزأ بعضهم من بعض. وقيل: معناه {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ} بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن يكلّفهم {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} يكرم أقواماً بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أُحد فاتخذ الله منهم شهداء {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ} يعني يطهّرهم من ذنوبهم {وَيَمْحَقَ الكافرين} يفنيهم ويهلكهم وينقصهم ثم عزّاهم فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} {ويعلم} نصب على الظرف، وقيل: بإضمار أن الخفيفة.
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} وذلك أنهم تمنوا أن يكون لهم يوم كيوم بدر فأراهم الله تعالى يوم أُحد فذلك قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي أسبابه وآثاره {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية.
قال أهل التفسير وأصحاب المغازي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب في سبعمائة رجل وأمر عبد الله بن جبير أحد بني عمر وعمر بن عوف وهو أخو خوات بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا.
فقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنّا بالنبل لانؤتا من خلفنا وإن كان لنا أو علينا، ولا تبرحوا مكاناً لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي، جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول:
* نحن بنات طارق * نمشي على النمارق *
* الدر في المخانق * والمسك في المفارق *
* إن تقبلوا نعانق ونفرّق * النمارق أو تدبروا نفارق *
* فراق غير وامق *
وكان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش وعبيد أهل مكة، فقاتلهم قتالا شديداً حتى حميت الحرب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني»فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشبة الأنصاري وكان رجلا شجاعاً يحتال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمَّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:
* أنا الذي عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل *
* ألاّ أقوم الدهر في الكيول * أضرب بسيف الله والرسول *
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لمشية يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع» ثم حمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم.
وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش، فأنزل الله نصره على المؤمنين.
قال الزبير بن العوّام: فرأيت هنداً وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب. واختلفوا، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: ما بقي من الأمر شيء، ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية، صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله، وتفرّق عنه أصحابه، فأقبل عبد الله بن قميه يريد قتل رسول الله فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ويوم أُحد وكان اسم رايته العقاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل مصعب دونه، قتله ابن قميه فرجع وهو يظن أنه قتل رسول الله، فقال: إني قتلت محمداً وصاح صارخ: ألا أن محمداً قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس ويقول: «إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله» فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه وأصيبت يد طلحة بن عبد الله فيبست، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أُبي بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا فقال: «دعوه» حتى إذا دنا منه، وكان أُبي قبل ذلك يلقى رسول الله فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها.
قال رسول الله: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما كان يوم أُحد ودنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول: قتلني محمد، واحتمله أصحابه فقالوا: ليس عليك شيء، فقال: بلى، لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي: أقتلك إن شاء الله، فلو بزق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني. فما لبث إلاّ يوماً حتى مات بموضع يقال له صرف.
فقال حسان بن ثابت في ذلك:
* لقد ورث الضلالة عن أبيه *أُبي حين بارزه الرسول *
* أتيت إليه تحمل رم عظم * وتوعده وأنت به جهول *
* يقول فكيف يحيى الله هذا * وهذا العظم عار ومستحيل *
* وقد قتلت بنو النجار منكم * أمية إذا يغوث: يا عقيل *
* وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا * أبا جهل لأمهما الهبول *
* وأفلت حارث لما شغلنا * بأسر القوم، أسرته فليل *
وقال حسان بن ثابت أيضاً:
* ألا من مبلغ عني أُبيّا * فقد القيت في جوف السعير *
* تمنى بالضلالة من بعيد * وقول الكفر يرجع في غرور *
* فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ * كريم الأصل ليس بذي فجور *
* له فضل على الأحياء طرّاً * إذا نابت مُلمّات الأمور *
قالوا: وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا والقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأول.
فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسمي أنس: يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قُتل، ثم إن رسول الله انطلق إلى الصخرة وهو يدعوا الناس، فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك فقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليَّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}
ومحمد هو المستغرق بجميع المحامد، لأن الحمد لا يستوجبه إلاّ الكامل، والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلاّ المستولي على الأمد في الكمال، وأكرم الله عزّ وجلّ نبيّه وصفيّه بإسمين مشتقين من اسمه تعالى: محمد وأحمد، وفيه يقول حسان بن ثابت:
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه *** والله أعلى وأمجد
قد شق له من اسمه ليجله *** فذوا العيش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الدين *** والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله ضوءاً منيراً وهادياً *** يلوح كما لاح الصقيل المهنّد
روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش وشتمهم يسبون مذمّما وأنا محمد».
وروى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمّيتم الولد محمداً فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجهاً فما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلاّ خيراً لهم وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه أحمد أو محمد إلاّ قدّس في كل يوم ذلك المنزل مرتين».
وعن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنما أدعوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي».
وروى محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم الله يعطي وأنا أقسم ثم رخص في ذلك لعلي وابنه».
وروى ليث عن محمد بن بشير عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ولدَ لك غلام نحلته اسمي وكنيتي».
{أَفإِنْ مَّاتَ} على فراشه {أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} رجعتم إلى دينكم الأول الكفر {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} فيرتد عن دينه {فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} بارتداده وإنما يضر نفسه {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} المؤمنين.
روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وأن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات قال: فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجّى ببردة خيبر، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم قال: بأبي أنت وأُمي، أما الموتة التي كتبها الله عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها ثم لم تصبك بعدها موتة أبداً، ثم ردَّ الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر فأنصت قال: فأبى إلاّ أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}. فقال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم».
قال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلاّ أن سمعت أن أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} يعني وما ينبغي لنفس أن تموت.
وقال الأخفش: اللام في قوله: {لنفس} مقتولة تقديره: ما كانت نفس لتموت {إلاّ بإذن الله} بعلم الله، وقيل: بأمره.
{كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} يعني أنّ لكل نفس أجلا هو بالغه ورزقاً مستوفيه، لا يقدر أحد على تقديمه وتأخيره.
قال مقاتل: من اللوح المحفوظ، ونصب الكتاب على المصدر يعني: كتب الله كتاباً مؤجلا، كقوله: {رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [الإسراء: 28] وصنع الله وكتاب الله عليكم، وقيل: هو إغراء أي: آمنوا بالقدر المقدور.
{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} يعني ومن يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاءاً لعمله، ونظيرها قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ} [الشورى: 20] الآية.
وقال أهل المعاني: الآية مجملة ومعناها: نؤته من نشاء ما قدرناه له، دليله قوله عزّ وجلّ: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحد طلباً للغنيمة.
{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قُتلوا {وَسَنَجْزِي الشاكرين} أي الموحدين المطيعين. والقراءة بالنون لقوله تعالى: {نُؤْتِهِ مِنْهَا}.
قرأ الأعمش: وسيجزي بالياء، يعني الله سبحانه.
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7